الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (1): {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} {الَّذِي} في موضع خفض على النعت أو البدل. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني.وحكى سيبويه {الحمد لله أهل الحمد} بالرفع والنصب والخفض. والحمد الكامل والثناء الشامل كله لله، إذ النعم كلها منه. وقد مضى الكلام فيه في أول الفاتحة. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} قيل: هو قوله تعالى: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ} [الزمر: 47].وقيل: هو قوله: {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [يونس: 10] فهو المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للأولى. {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في فعله. {الْخَبِيرُ} بأمر خلقه..تفسير الآية رقم (2): {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي ما يدخل فيها من قطر وغيره، كما قال: {فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] من الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات. {وَما يَخْرُجُ مِنْها} من نبات وغيره. {وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ} من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات. وقرأ علي بن أبي طالب {وما ننزل} بالنون والتشديد. {وَما يَعْرُجُ فِيها} من الملائكة وأعمال العباد، قاله الحسن وغيره {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}..تفسير الآيات (3- 4): {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} قيل: المراد أهل مكة. قال مقاتل: قال أبو سفيان لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث. فقال الله: {قُلْ} يا محمد {بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} وروى هارون عن طلق المعلم قال: سمعت أشياخنا يقرءون {قل بلى وربي ليأتينكم} بياء، حملوه على المعنى، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو أمره. كما قال: {لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]. فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل. فهذا تحكم بعد أن أخبر على ألسنة الرسل أنه يبعث الخلق، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال. {عالم الغيب} بالرفع قراءة نافع وابن كثير على الابتداء، وخبره {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} وقرأ عاصم وأبو عمرو {عالِمِ} بالخفض، أي الحمد لله عالم، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ}. وقرأ حمزة والكسائي: {علام الغيب} على المبالغة والنعت. {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} أي لا يغيب عنه، {ويعزب} أيضا. قال الفراء: والكسر أحب إلى. النحاس: وهي قراءة يحيى بن وثاب، وهي لغة معروفة. يقال: عزب يعزب ويعزب إذا بعد وغاب. {مِثْقالُ ذَرَّةٍ} أي قدر نملة صغيرة. {فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ} وفي قراءة الأعمش {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ} بالفتح فيهما عطفا على {ذَرَّةٍ}. وقراء العامة بالرفع عطفا على {مِثْقالُ}. {إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} فهو العالم بما خلق ولا يخفى عليه شي. {لِيَجْزِيَ} منصوب بلام كي، والتقدير: لتأتينكم ليجزي. {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} بالثواب، والكافرين بالعقاب. {أُولئِكَ} يعني المؤمنين. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} لذنوبهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة..تفسير الآية رقم (5): {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا} أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا. {مُعاجِزِينَ} مسابقين يحسبون أنهم يفتوننا، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة، وظنوا أنا نهملهم، فهؤلاء {لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} يقال: عاجزة وأعجزه إذا غالبه وسبقه. و{أليم} قراءة نافع بالكسر نعتا للرجز، فإن الرجز هو العذاب، قال الله تعالى: {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ} [البقرة: 59]. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم {عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} برفع الميم هنا وفي {الجاثية} نعتا للعذاب. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد بن قيس ومجاهد وأبو عمرو {معجزين} مثبطين، أي ثبطوا الناس عن الايمان بالمعجزات وآيات القرآن..تفسير الآية رقم (6): {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}لما ذكر الذين سعوا في إبطال النبوة بين أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق. قال مقاتل: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هم مؤمنو أهل الكتاب.وقال ابن عباس: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل جميع المسلمين، وهو أصح لعمومه. والرؤية بمعنى العلم، وهو في موضع نصب عطفا على {لِيَجْزِيَ} أي ليجزي وليرى، قاله الزجاج والفراء. وفية نظر، لان قوله: {لِيَجْزِيَ} متعلق بقوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} الساعة، ولا يقال: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، فإنهم يرون القرآن حقا وإن لم تأتهم الساعة. والصحيح أنه رفع على الاستئناف، ذكره القشيري. قلت: وإذا كان {لِيَجْزِيَ} متعلقا بمعنى أثبت ذلك في كتاب مبين، فيحسن عطف {وَيَرَى} عليه، أي وأثبت أيضا ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق. ويجوز أن يكون مستأنفا. {الَّذِي} في موضع نصب على أنه مفعول أول ل {يَرَى} {هُوَ الْحَقَّ} مفعول ثان، و{هُوَ} فاصلة. والكوفيون يقولون {هُوَ} عماد. ويجوز الرفع على أنه مبتدأ. و{الْحَقَّ} خبره، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني، والنصب أكثر فيما كانت فيه الالف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا يدخله الالف واللام فيشبه المعرفة. فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قولك: كان أخوك هو زيد، فزعم الفراء أن الاختيار فيه الرفع. وكذا كان محمد هو عمرو. وعلته في اختياره الرفع أنه لم تكن فيه الالف واللام أشبه النكرة في قولك: كان زيد هو جالس، لان هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. {وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي يهدي القرآن إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله. ودل بقوله: {الْعَزِيزِ} على أنه لا يغالب. وبقوله: {الْحَمِيدِ} على أنه لا يليق به صفة العجز..تفسير الآية رقم (7): {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ} وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها. {يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} هذا إخبار عمن قال: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: 3] أي هل نرشدكم إلى رجل ينبئكم، أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد البلى في القبور. وهذا صادر عن فرط إنكارهم. الزمخشري: فإن قلت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، فما معنى قولهم:{هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} فنكروه لهم وعرضوا عليهم الدلالة عليه، كما يدل على مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز والهزؤ والسخرية، فأخرجوه مخرج التحكي ببعض الاحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي، متجاهلين به وبأمره. و{إِذا} في موضع نصب والعامل فيها {مُزِّقْتُمْ} قاله النحاس. ولا يجوز أن يكون العامل فيها {يُنَبِّئُكُمْ}، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد {إن}، لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ولا معمولها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا، التقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم، أو ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. المهدوي: ولا يعمل فيه {مُزِّقْتُمْ}، لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأجازه بعضهم على أن يجعل {إذا} للمجازاة، فيعمل فيها حينئذ ما بعدها لأنها غير مضافة إليه. وأكثر ما تقع {إذا} للمجازاة في الشعر. ومعنى {مزقتم كل ممزق} فرقتم كل تفريق. والمزق خرق الأشياء، يقال: ثوب مزيق وممزوق ومتمزق وممزق..تفسير الآية رقم (8): {أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)}قوله تعالى: {أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} لما دخلت ألف الاستفهام استغنيت عن ألف الوصل فحذفتها، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى هذا في سورة مريم عند قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} [مريم: 78] مستوفى. {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} هذا مردود على ما تقدم من قول المشركين، والمعنى: قال المشركون {أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}. والافتراء الاختلاق. {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} أي جنون، فهو يتكلم بما لا يدري. ثم رد عليهم فقال: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} أي ليس الامر كما قالوا، بل هو أصدق الصادقين، ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب، واليوم في الضلال عن الصواب، إذ صاروا إلى تعجيز الاله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات..تفسير الآية رقم (9): {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}أعلم الله تعالى أن الذي قدر على خلق السماوات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السماوات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب، فكيف يأمنون الخسف والكسف كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرأ حمزة والكسائي {إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط} بالياء في الثلاث، أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على التعظيم. وقرأ السلمي وحفص {كسفا} بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد تقدم بيانه في سبحان وغيرها. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً} أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا {لآية} أي دلالة ظاهرة. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته..تفسير الآية رقم (10): {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)}{وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} بين لمنكري نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. {آتَيْنا} أعطينا. {فضلا} أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال: الأول- النبوة.الثاني- الزبور.الثالث- العلم، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً} [النمل: 15].الرابع- القوة، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [ص: 71].الخامس- تسخير الجبال والناس، قال الله تعالى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ}.السادس: التوبة، قال الله تعالى: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ} [ص: 25].السابع: الحكم بالعدل، قال الله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] الآية.الثامن- إلانة الحديد، قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}.التاسع- حسن الصوت، وكان داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} [فاطر: 1] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي موسى: {لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود}. قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله. قوله تعالى: {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي وقلنا يا جبال أوبي معه، أي سبحي معه، لأنه قال تبارك وتعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ} [ص: 18]. قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام.وقيل: المعنى سيرى معه حيث شاء، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع وينزل الليل. قال ابن مقبل:وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما: {أوبي معه} أي رجعي معه، من آب يؤوب إذا رجع، أوبا وأوبة وإيابا.وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل.وقال وهب ابن منبه: المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه. فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة، فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة، فإذا دخلت الفترة اهتاج، أي ثار وتحرك، وقوى بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته. {والطير} بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك، عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في {أوبي} وحسنه الفصل بمع. الباقون بالنصب عطفا على موضع {يا جبال} أي نادينا الجبال والطير، قاله سيبويه. وعند أبي عمرو ابن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير.وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملا على {ولقد آتينا داود ما فضلا}. النحاس: ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدا، فالمعنى أوبي معه ومع الطير. {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} قال ابن عباس: صار عنده كالشمع.وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله من غير نار.وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة. وقاله مقاتل. وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم.وقيل: أعطي قوة يثنى بها الحديد، وسبب ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له: ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك نعم العبد لولا خلة فيه قال داود: وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله. فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس كما قال عز وجل في سورة الأنبياء، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله، ويتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر. مسألة- في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم، إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان.وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده». وقد مضى هذا في الأنبياء مجودا والحمد لله.
|